فصل: تفسير الآية رقم (24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (24):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [24].
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} أي: من مكان أسفل منها، تحت أكمة، وهو جبريل. وقيل: هو عيسى، وقرئ {مَنْ} بفتح الميم موصولة: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} أي: سيداً نبيلاً رفيعاً، وقيل: نهراً يسري.

.تفسير الآية رقم (25):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [25].
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} أي: حضر أوان اجتنائه. قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلَّى بالسريّ والرطب! قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعام وشراب، ولكن من حيث إنهما معجزتان تُريان الناس أنها من أهل العصمة، والبعد من الريبة، وأمن مثلها، مما قرفوها به، بمعزل. وأن لها أموراً إلهية خارجة عن العادات، خارقة لما ألفوا واعتادوا حتى يتبين لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.

.تفسير الآية رقم (26):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [26].
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} أي: بالكمال والولد المبارك، الموجود بالقدرة، الموهوب بالعناية. قال الزمخشريّ: أي: جمعنا لك في السريّ والرطب فائدتين: إحداهما: الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين. وهو معنى قوله: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} أي: وطيبي نفساً ولا تغتمي. وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} أي: من المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب، الذين لا يفهمون قولك ولا يصدقون بحالك. لوقوفهم مع العادة واحتجابهم عن نور الحق. فإذا سألوك: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} أي: لا تكلميهم في أمرك شيئاً. ولا تمادّيهم فيما لا يمكنهم قبوله. وإِنما أمرتْ بذلك لكراهة مجادلة السفهاء، والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام. فإنه نص قاطع في براءة ساحتها، فقوله: {صَوْماً}. وقوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ} إلخ تفسير للنذر بذكر صيغته.

.تفسير الآية رقم (27):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [27].
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} أي: عظيماً منكراً.

.تفسير الآية رقم (28):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [28].
{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} استئناف لتجديد التعبير، وتأكيد التوبيخ، وتقرير لكون ما جاءت به فرياً. وهارون هو النبيّ الشهير، صلوات الله عليه يعنون أنها مثله في الصلاح. لأن الأخ والأخت يستعمل بمعنى المشابه كثيراً.

.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [29].
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا} منكرين لجوابها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} ولم يعهد تكليم عاقل لصبيّ في المهد.

.تفسير الآيات (30- 31):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [30- 31].
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} أنطقه الله بذلك. أولاً تحقيقاً للحق في شأنه وتنزيهاً لله تعالى عن الولد، ردّاً على من يزعم ربوبيته ونبوَّته: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} أي: الإنجيل: {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} أي: كثير الخير حيثما وجدت. أبلغ وحي ربي لتقويم النفوس وكبح الشهوات والأخذ بما هو مناط السعادات. والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة، إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم، أو جعل الآتي، لا محالة، كأنه وجد: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} أي: أمرني بالعبادة وإنفاق المال مدة حياتي.

.تفسير الآيات (32- 36):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [32- 36].
{وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} أي: مستكبراً عن طاعته وأمره.
{وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ} أي: الذي فصلت نعوته الجليلة وخصائصه الباهرة: {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أي: لا ما يصفه به النصارى. وهو تكذيب لهم، فيما يزعمونه، على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهانيّ. حيث جعله موصوفاً بأضداد ما يصفونه: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: ومَن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟
وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عِمْرَان: 59- 60]، ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده، بقوله سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [36] أي: قويم. من اتبعه رشد وهدى. ومن خالفه ضلَّ وغوى.
تنبيهات في فوائد هذه القصة:
الأول: لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته، ولداً زكيّاً طاهراً مباركاً، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب. فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة. ولهذا ذكرهما في آل عِمْرَان، وههنا، وفي سورة الأنبياء. يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه. وأنه على ما يشاء قدير. ومريم هي بنت عِمْرَان. من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عِمْرَان. وأنها نذرتها محررة للعبادة. وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة. فكانت إحدى الناسكات المتبتلات. وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقاً. كما تقدم في سورة آل عِمْرَان.
الثاني: استدل بقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [17]، من قال بنبوة مريم. واستُدل بقوله تعالى عنها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [23]، على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال. وبقوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [25] على التسبب في الرزق، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل:
ألم تر أنَّ اللهَ قالَ لمريمٍ ** وهُزِّي إليكِ الجِذْعَ يَسَّاقَط الرطَبْ

ولو شاء أحنى الجذعَ من غير هزِّهِ ** إليها، ولكن كل شيء لَهُ سَبَبْ

في الآية أصل لما يقوله الأطباء، إن الرطب ينفع النساء. واستدل بقوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} بعدَ: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} على أن الحالف لا يتكلم أو لا يكلم فلاناً لا يحنث بالإشارة. وعلى أن السكوت عن السفيه واجب، كما استنبطه الزمخشري، قال: ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً. وفي قوله تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} معنى قولهم في المثل: من أشبه أباه فما ظلم. وفيه أيضاً تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.
الثالث: نقل الرازيّ عن القاضي في قوله تعالى: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ} [33]، إلخ أن السلام عبارة عما يحصل به الأمان. ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات. فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى فعله بيحيى. ولابد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة. وأعظم أحوال الإنسان احتياجاً إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة: وهي يوم الولادة ويوم البعث. فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى، طلبها ليكون مصوناً عن الآفات والمخالفات في كل الأحوال.
الرابع: قال القاشانيّ: وإنما تمثل لها بشراً سويّ الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به وتستأنس. فتتحرك على مقتضى الجبلة. ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة. فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة، لهذء [؟؟] القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم. فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا قلباً والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة. لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد، بمنزلة الأنفحة في الجبن. ومني الأنثى بمنزلة اللبن، أي: العقد من منيّ الذكر والانعقاد من منيّ الأنثى. لا على معنى أن منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة، بل على معنى أن القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى. والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى. وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئاً واحداً. ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزءاً من الولد. فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قوياً ذكورياً، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القويّة القوى، وكان مزاج كبدها حارّاً، كان المنيُّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيراً من الذي ينفصل من كليتها اليسرى. فإذا اجتمعا في الرحم، كان مزاج الرحم قويّاً في الإمساك والجذب، قام المنفصل في الكلية اليمنى، مقام الذكر في شدة قوة العقد. والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد، فيتخلق الوالد هذا. وخصوصاً إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس، متقوية، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدّ الروحانيّ، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس. والله أعلم.
ثم قال في قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} في اللوح مقدراً في الأزل. وعن ابن عباس: فاطمأنت إليه بقوله: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} فدنا منها فنفخ في جيب الدرع، أي: البدن، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا. كالغلمة مثلاً والمعانقة التي كثيراً ما تصير سبباً للإنزال. وقيل: إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها. والحق أنه روح القدس. لأنه كان السبب الفاعليّ لوجوده كما قال: {لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}. واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم، واستقرارها فيه، ريثما تمتزج وتتحد وتقبل مزاجاً صالحاً لقبول الروح. انتهى.
الخامس: التمثّل مشتق من المثل. ومعناه التصور. وفيه دليل على أن الملَك يتشكل بشكل البشر.
قال إمام الحرمين: تمثلُ جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه. لم يعيده إليه بعدُ.
وجزم ابن عبد السلام: بالإزالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجباً لموته، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيّاً. لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلاً، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.
وقال البلقينيّ: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه. بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصليّ. إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل. وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته. ومثال ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشاً. فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب. والحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيساً لمن يخاطبه. الظاهر أيضاً أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط. والله أعلم. كذا قال ابن حجر في فتح الباري.
ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب، واقتفاء ما لم يحط بكنهه. فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ. لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل. ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فيه نص قاطع. وكل ما كان كذلك فليس من شاننا أن نبحث فيه. فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة.
السادس: قال بعضهم: أصل كلمة عيسى: يسوع. فحرفه اليهود إلى عيسو تهكماً فحوله العرب إلى عيسى تشبهاً باسم موسى. ولبدل الواو بالألف سبب مبنيّ على قواعد اللغة العبرانية، بل والعربية. انتهى.

.تفسير الآية رقم (37):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [37].
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أي: اختلف قول أهل الكتاب في عيسى، بعد بيان أمره ووضوح حاله. وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فأصرت اليهود منهم على بهت أمه وقرفه بالسحر. وانقسمت النصارى في أمره انقساماً يفوت الحصر. وكله ضلال وشرك وكفر. وقد هدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. وهذا من فضله تعالى ومنّه: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني بالذين كفروا، المختلفين. عبّر عنهم بالموصول إيذاناً بكفرهم جميعاً وإشعاراً بعلة الحكم. وفي مَشْهَدِ ستة أوجه. لأنه مصدر ميميّ أو اسم زمان أو مكان. وعلى كل فهو إما من الشهود أي: الحضور أو الشهادة. وهذا معنى قول الزمخشريّ: أي: في شهودهم هول الحساب والجزاء إلى يوم القيامة. أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها.
وقيل: معناه ما شهدوا به في عيسى وأمه فعظمه لعظم ما فيه أيضاً. كقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5]، وفيه وعيد لهم وتهديد شديد. وذلك لأنه لا أظلم ممن كذب بالحق لما جاءه. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (38):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [38].
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صماً عمياً. والآية كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12] الآية، أي: يقولون ذلك حين لا يجدي عنهم شيئاً. ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لأجدى: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} أي: في الدنيا: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} لإغفالهم الاستماع والنظر. فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون. قال الزمخشريّ: أوقع الظاهر أعني الظالمين موقع الضمير، إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر، حين يجدي عليهم ويسعدهم.
تنبيه:
إنما أوِّل التعجب في الآية بما ذكر، وأنه مصروف للعباد الذين يصدر منهم التعجب، لأن صدوره من الله تعالى محال. إذ هو كيفية نفسانية تنشأ عن استعظام ما لا يدرى سببه. ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب. والمعنى تعجبوا من سمعهم وأبصارهم حيث لا ينفعهم ذلك. فهي كقوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، أفاده الشهاب.
وهذه طريقة المتكلمين في تأويل ما يشترك في الإضافة إليه تعالى وإلى خلقه من الصفات المروية. وطريقة السلف المحققين إثبات ما ورد به السمع مع نفي التشبيه. إذ لا اتحاد بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فما يضاف إليه تعالى هو على النحو الذي يجب أن يكون عليه جل جلاله. فما يقدر في حق المخلوقين من الصفات مستلزماً للمحال، لا يجب أن يكون في حقه تعالى مستلزماً لذلك. كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا، يستلزم النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا، يستلزم احتياجاً إلى خالق يجعلنا موجودين. والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا. فنحن وصفاتنا وأفعالنا. مقرونون بالحاجة إلى الغير. والحاجة لنا أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. وهو سبحانه، الغِنَى له أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. فهو بنفسه حيّ قيوم واجب الوجود، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء. فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال، من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن لا يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال، وأن لا يقدر ولا يعلم. لكون ذلك ملازماً للحاجة فينا. فكذلك كل ما جاء به السمع من الصفات، إذا قدر أنه في حقنا ملازم لحاجة وضعف، لم يجب أن يكون في حق الله تعالى ملازماً لذلك. هذا ما قرره الإمام تقي الدين بن تيمية في خلال بعض فتاويه. وكلامه هذا بمثابة القاعدة الكلية لأمثال هذا الموضوع. فاحفظه.